الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*3* يُحَارُ فِيهَا الطَّرْفُ شَدِيدَةُ سَوَادِ الْعَيْنِ شَدِيدَةُ بَيَاضِ الْعَيْنِ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ أَنْكَحْنَاهُمْ الشرح: قوله: (الحور العين وصفتهن) كذا لأبي ذر بغير باب وثبت لغيره، ووقع عند ابن بطال " باب نزول الحور العين إلخ " ولم أره لغيره. قوله: (يحار فيها الطرف) أي يتحير، قال ابن التين: هذا يشعر بأنه رأى أن اشتقاق الحور عن الحيرة، وليس كذلك، فإن الحور بالواو والحيرة بالياء، وأما قول الشاعر " حوراء عيناء من العين الحير " فهو للاتباع. قلت: لعل البخاري لم يرد الاشتقاق الأصغر. قوله: (شديدة سواد العين شديدة بياض العين) كأنه يريد تفسير العين، والعين بالكسر جمع عيناء وهي الواسعة العين الشديدة السواد والبياض قاله أبو عبيدة. قوله: (وزوجناهم بحور: أنكحناهم) هو تفسير أبي عبيدة ولفظه: زوجناهم أي جعلناهم أزواجا أي اثنين اثنين كما تقول زوجت النعل بالنعل. وقال في موضع آخر: أي جعلنا ذكران أهل الجنة أزواجا بحور من النساء. وتعقب بأن زوج لا يتعدى بالباء قاله الإسماعيلي وغيره، وفيه نظر لأن صاحب المحكم حكاه لكن قال: أنه قليل، والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَأَنَّ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا إِلَّا الشَّهِيدَ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى الشرح: قوله: (حدثنا عبد الله بن محمد) هو الجعفي، ومعاوية بن عمرو هو الأزدي، وهو من شيوخ البخاري يروى عنه تارة بواسطة كما هنا وتارة بلا واسطة كما في كتاب الجمعة. قوله: (حدثنا أبو إسحاق) هو الفزاري إبراهيم بن محمد. الحديث: قَالَ وَسَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَرَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ غَدْوَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ أَوْ مَوْضِعُ قِيدٍ يَعْنِي سَوْطَهُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلَأَتْهُ رِيحًا وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا الشرح: اشتمل هذا السياق على أربعة أحاديث: الأول يأتي شرحه بعد ثلاثة عشر بابا، الثاني تقدم شرحه في الذي قبله، الثالث والرابع يأتي شرحهما في صفة الجنة من كتاب الرقاق. وقوله في الباب " ولقاب قوس أحدكم " تقدم شرح، " القاب " في الذي قبله، وقوله هنا " أو موضع قيد يعني سوطه " شك من الراوي هل قال قاب أو قيد، وقد تقدم أنهما بمعنى وهو المقدار. وقوله "يعني سوطه " تفسير للقيد غير معروف، ولهذا جزم بعضهم بأنه تصحيف وأن الصواب " قد " بكسر القاف وتشديد الدال وهو السوط المتخذ من الجلد. قلت: ودعوى الوهم في التفسير أسهل من دعوى التصحيف في الأصل ولا سيما والقيد بمعنى القاب كما بينته، والمقصود من ذلك لهذه الترجمة الأخير، وقوله فيه، " ولنصيفها " بفتح النون وكسر الصاد المهملة بعدها تحتانية ساكنة ثم فاء هو الخمار بكسر المعجمة وتخفيف الميم، قال المهلب: إنما أورد حديث أنس هذا ليبين المعنى الذي من أجله يتمنى الشهيد أن يرجع إلى الدنيا ليقتل مرة أخرى في سبيل الله، لكونه يرى من الكرامة بالشهادة فوق ما في نفسه، إذ كل واحدة يعطاها من الحور العين لو اطلعت على الدنيا لأضاءت كلها انتهى. وروى ابن ماجه من طريق شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال " ذكر الشهيد عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تجف الأرض من دم الشهيد حتى تبتدره زوجاته من الحور العين وفي يد كل واحدة منها حلة خير من الدنيا وما فيها " ولأحمد والطبراني من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا " أن للشهيد عند الله سبع خصال " فذكر الحديث وفيه " ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين " إسناده حسن، وأخرجه الترمذي من حديث المقدام بن معد يكرب وصححه. الشرح: قوله: (باب تمني الشهادة) تقدم توجيهه في أول كتاب الجهاد وأن تمنيها والقصد لها مرغب فيه مطلوب. وفي الباب أحاديث صريحة في ذلك منها عن أنس مرفوعا " من طلب الشهادة صادقا أعطيها ولو لم يصبها أي أعطي ثوابها ولو لم يقتل " أخرجه مسلم، وأصرح منه في المراد ما أخرجه الحاكم بلفظ " من سأل القتل في سبيل الله صادقا ثم مات أعطاه الله أجر شهيد " وللنسائي من حديث معاذ مثله، وللحاكم من حديث سهل ابن حنيف مرفوعا " من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه". الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا أَنَّ رِجَالًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي وَلَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ الشرح: قوله: (أن أبا هريرة) هذا الحديث رواه عن أبي هريرة جماعة من التابعين منهم سعيد بن المسيب هنا وأبو زرعة بن عمرو في " باب الجهاد من الإيمان " من كتاب الإيمان، وأبو صالح وهو في " باب الجعائل والحملان " في أثناء كتاب الجهاد، والأعرج وهو في كتاب التمني، وهمام وهو عند مسلم وسأذكر ما في رواية كل واحد منهم من زيادة فائدة. قوله: (والذي نفسي بيده لولا أن رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم) في رواية أبي زرعة وأبي صالح " لولا أن أشق على أمتي " ورواية الباب تفسر المراد بالمشقة المذكورة وهي أن نفوسهم لا تطيب بالتخلف ولا يقدرون على التأهب لعجزهم عن آلة السفر من مركوب وغيره وتعذر وجوده عند النبي صلى الله عليه وسلم، وصرح بذلك في رواية همام ولفظه " لكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة فيتبعوني، ولا تطيب أنفسهم أن يقعدوا بعدي " وفي رواية أبي زرعة عند مسلم نحوه، ورواه الطبراني من حديث أبي مالك الأشعري وفيه " ولو خرجت ما بقي أحد فيه خير إلا انطلق معي، وذلك يشق علي وعليهم) ، ووقع في رواية أبي صالح من الزيادة " ويشق على أن يتخلفوا عني". قوله: (والذي نفسي بيده لوددت) وقع في رواية أبي زرعة المذكورة بلفظ " ولوددت أني أقتل " بحذف القسم، وهو مقدر لما بينته هذه الرواية، فظهر أن اللام لام القسم وليست بجواب لولا، وفهم بعض الشراح أن قوله " لوددت " معطوف على قوله " ما قعدت " فقال: يجوز حذف اللام وإثباتها من جواب لولا، وجعل الودادة ممتنعة خشية وجود المشقة لو وجدت، وتقدير الكلام عنده: لولا أن أشق على أمتي لوددت أني أقتل في سبيل الله. ثم شرع يتكلف استشكال ذلك والجواب عنه، وقد بينت رواية الباب أنها جملة مستأنفة وأن اللام جواب القسم. ثم النكتة في إيراد هذه الجملة عقب ثلث إرادة تسلية الخارجين في الجهاد عن مرافقته لهم، وكأنه قال: الوجه الذي يسيرون له فيه من الفضل ما أتمنى لأجله أني أقتل مرات، فمهما فاتكم من مرافقتي والقعود معي من الفضل يحصل لكم مثله أو فوقه من فضل الجهاد، فراعى خواطر الجميع. وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم في بعض المغازي وتخلف عنه المشار إليهم، وكان ذلك حيث رجحت مصلحة خروجه على مراعاة حالهم، وسيأتي بيان ذلك في " باب من حبسه العذر". قوله: (أقتل في سبيل الله) استشكل بعض الشراح صدور هذا التمني من النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه بأنه لا يقتل، وأجاب ابن التين بأن ذلك لعله كان قبل نزول قوله تعالى وحكى شيخنا ابن الملقن أن بعض الناس زعم أن قوله " ولوددت " مدرج من كلام أبي هريرة قال: وهو بعيد، قال النووي: في هذا الحديث الحض على حسن النية، وبيان شدة شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ورأفته بهم واستحباب طلب القتل في سبيل الله، وجواز قول وددت حصول كذا من الخير وإن علم أنه لا يحصل. وفيه ترك بعض المصالح لمصلحة راجحة أو أرجح أو لدفع مفسدة، وفيه جواز تمني ما يمتنع في العادة، والسعي في إزالة المكروه عن المسلمين. وفيه أن الجهاد على الكفاية إذ لو كان على الأعيان ما تخلف عنه أحد قلت: وفيه نظر، لأن الخطاب إنما يتوجه للقادر، وأما العاجز فمعذور، وقد قال سبحانه الحديث: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الصَّفَّارُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ لَهُ وَقَالَ مَا يَسُرُّنَا أَنَّهُمْ عِنْدَنَا قَالَ أَيُّوبُ أَوْ قَالَ مَا يَسُرُّهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدَنَا وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ الشرح: قوله: (حدثنا يوسف بن يعقوب الصفار) بالمهملة وتشديد الفاء، كوفي ثقة يكنى أبا يعقوب، لم يخرج عنه البخاري سوى هذا الحديث، ورجال الإسناد من شيخه إسماعيل بن علية فصاعدا بصريون، وسيأتي شرح المتن في غزوة مؤتة من كتاب المغازي، ووجه دخوله في هذه الترجمة من قوله " ما يسرهم أنهم عندنا " أي لما رأوا من الكرامة بالشهادة فلا يعجبهم أن يعودوا إلى الدنيا كما كانوا من غير أن يستشهدوا مرة أخرى، وبهذا التقرير يحصل الجمع بين حديثي الباب، ودليل ما ذكرته من الاستثناء ما سيأتي بعد أبواب من حديث أنس أيضا مرفوعا " ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا إلا الشهيد " الحديث. *3* وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَقَعَ وَجَبَ الشرح: قوله: (باب فضل من يصرع في سبيل الله فمات فهو منهم) أي من المجاهدين، ومن موصولة، وكأنه ضمنها معنى الشرط فعطف عليها بالفاء وعطف الفعل الماضي على المستقبل وهو قليل، وكان نسق الكلام أن يقول: من صرع فمات، أو من يصرع فيموت، وقد سقط لفظ فمات من رواية النسفي. قوله: (وقول الله عز وجل قوله: (وقع: وجب) ليس هذا في رواية المستملي وثبت لغيره، وهو تفسير أبي عبيدة في " المجاز " قال: قوله فقد وقع أجره على الله أي وجب ثوابه. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ خَالَتِهِ أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ قَالَتْ نَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا قَرِيبًا مِنِّي ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَتَبَسَّمُ فَقُلْتُ مَا أَضْحَكَكَ قَالَ أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ يَرْكَبُونَ هَذَا الْبَحْرَ الْأَخْضَرَ كَالْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ قَالَتْ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَدَعَا لَهَا ثُمَّ نَامَ الثَّانِيَةَ فَفَعَلَ مِثْلَهَا فَقَالَتْ مِثْلَ قَوْلِهَا فَأَجَابَهَا مِثْلَهَا فَقَالَتْ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَقَالَ أَنْتِ مِنْ الْأَوَّلِينَ فَخَرَجَتْ مَعَ زَوْجِهَا عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ غَازِيًا أَوَّلَ مَا رَكِبَ الْمُسْلِمُونَ الْبَحْرَ مَعَ مُعَاوِيَةَ فَلَمَّا انْصَرَفُوا مِنْ غَزْوِهِمْ قَافِلِينَ فَنَزَلُوا الشَّأْمَ فَقُرِّبَتْ إِلَيْهَا دَابَّةٌ لِتَرْكَبَهَا فَصَرَعَتْهَا فَمَاتَتْ الشرح: حديث أم حرام وقد تقدم قريبا أن شرحه يأتي في كتاب الاستئذان: والشاهد منه قوله فيه " فقربت إليها دابة لتركبها فصرعتها فماتت"، مع دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لها أن تكون من الأولين وأنهم كالملوك على الأسرة في الجنة، وقوله في الرواية الماضية " فصرعت عن دابتها " لا يعارض قوله في هذه الرواية " فقربت لتركبها فصرعتها " لأن التقدير فقربت إليها دابة لتركبها فركبتها فصرعتها. قال ابن بطال: وروى ابن وهب من حديث عقبة بن عامر مرفوعا " من صرع عن دابته في سبيل الله فمات فهو شهيد " فكأنه لما لم يكن على شرط البخاري أشار إليه في الترجمة. قلت: هو عند الطبراني وإسناده حسن قال: وفي حديث أم حرام أن حكم الراجع من الغزو حكم الذاهب إليه في الثواب. ويحيى المذكور في هذا الإسناد هو ابن سعيد الأنصاري، وفي الإسناد تابعيان هو وشيخه وصحابيان أنس وخالته، وقوله فيه " أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية " كان ذلك في سنة ثمان وعشرين في خلافة عثمان. *3* الشرح: قوله: (باب من ينكب) بضم أوله وسكون النون وفتح الكاف بعدها موحدة، والنكبة أن يصيب العضو شيء فيدميه، والمراد بيان فضل من وقع له ذلك في سبيل الله. الحديث: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرُ الْحَوْضِيُّ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ إِسْحَاقَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْوَامًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ إِلَى بَنِي عَامِرٍ فِي سَبْعِينَ فَلَمَّا قَدِمُوا قَالَ لَهُمْ خَالِي أَتَقَدَّمُكُمْ فَإِنْ أَمَّنُونِي حَتَّى أُبَلِّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَّا كُنْتُمْ مِنِّي قَرِيبًا فَتَقَدَّمَ فَأَمَّنُوهُ فَبَيْنَمَا يُحَدِّثُهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَوْمَئُوا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَطَعَنَهُ فَأَنْفَذَهُ فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ ثُمَّ مَالُوا عَلَى بَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ فَقَتَلُوهُمْ إِلَّا رَجُلًا أَعْرَجَ صَعِدَ الْجَبَلَ قَالَ هَمَّامٌ فَأُرَاهُ آخَرَ مَعَهُ فَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ قَدْ لَقُوا رَبَّهُمْ فَرَضِيَ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ فَكُنَّا نَقْرَأُ أَنْ بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ فَدَعَا عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَبَنِي لَحْيَانَ وَبَنِي عُصَيَّةَ الَّذِينَ عَصَوْا اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: حديث أنس في قصة قتل خاله وهو حرام بن ملحان وسيأتي شرحه في كتاب المغازي في غزوة بئر معونة، وقوله فيه " عن إسحاق " هو ابن عبد الله بن أبي طلحة. قوله: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم أقواما من بني سليم إلى بني عامر) قال الدمياطي: هو وهم، فإن بني سليم مبعوث إليهم، والمبعوث هم القراء وهم من الأنصار. قلت: التحقيق أن المبعوث إليهم بنو عامر، وأما بنو سليم فغدروا بالقراء المذكورين، والوهم في هذا السياق من حفص بن عمر شيخ البخاري، فقد أخرجه هو في المغازي عن موسى بن إسماعيل عن همام فقال " بعث أخا لأم سليم في سبعين راكبا، وكان رئيس المشركين عامر بن الطفيل " الحديث، ويأتي شرحه مستوفى هناك، فلعل الأصل " بعث أقواما معهم أخو أم سليم إلى بني عامر " فصارت من بني سليم، وقد تكلف لتأويله بعض الشراح فقال: يحمل على أن أقواما منصوب بنزع الخافض أي بعث إلى أقوام من بني سليم منضمين إلى بني عامر وحذف مفعول بعث اكتفاء بصفة المفعول عنه، أو " في " زائدة ويكون " سبعين " مفعول بعث، ويحتمل أن تكون " من " لبست بيانية بل ابتدائية، أي بعث أقواما ولم يصفهم من بني سليم أو من جهة بني سليم انتهى. وهذا أقرب من التوجيه الأول ولا يخفى ما فيهما من التكلف. وقوله في آخر الحديث " على رعل " بكسر الراء وسكون المهملة بعدها لام هم بطن من بني سليم، وكذا بعض من ذكر معهم؛ وسيأتي الحديث في أواخر الجهاد أنه دعا على أحياء من بني سليم حيث قتلوا القراء، وهو أصرح في المقصود. الحديث: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ جُنْدَبِ بْنِ سُفْيَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي بَعْضِ الْمَشَاهِدِ وَقَدْ دَمِيَتْ إِصْبَعُهُ فَقَالَ هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ الشرح: حديث جندب، وسيأتي الكلام عليه في " باب ما يجوز من الشعر " من كتاب الأدب، ووقع فيه بلفظ " نكبت إصبعه " وهو الموافق للترجمة، وكأنه أشار فيها إلى حديث معاذ الذي أشير إليه في الباب الذي يليه، وفي الباب ما أخرجه أبو داود والحاكم والطبراني من حديث أبي مالك الأشعري مرفوعا " من وقصه فرسه أو بعيره في سبيل الله أو لدغته هامة أو مات على أي حتف شاء الله فهو شهيد". *3* الشرح: قوله: (باب من يجرح في سبيل الله) أي فضله. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ الشرح: قوله: (لا يكلم) بضم أوله وسكون الكاف وفتح اللام أي يجرح. قوله: (أحد) قيده في رواية همام عن أبي هريرة بالمسلم. قوله: (والله أعلم بمن يكلم في سبيله) جملة معترضة قصد بها التنبيه على شرطية الإخلاص في نيل هذا الثواب. قوله: (إلا جاء يوم القيامة واللون لون الدم) في رواية همام عن أبي هريرة الماضية في كتاب الطهارة " تكون يوم القيامة كهيئتها إذا طعنت تفجر دما". قوله: (والريح ريح المسك) في رواية همام " والعرف " بفتح المهملة وسكون الراء بعدها فاء وهو الرائحة، ولأصحاب السنن وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم من حديث معاذ بن جبل " من جرح جرحا في سبيل الله أو نكب نكبة فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت، لونها الزعفران وريحها المسك " وعرف بهذه الزيادة أن الصفة المذكورة لا تختص بالشهيد بل هي حاصلة لكل من جرح، ويحتمل أن يكون المراد بهذا الجرح هو ما يموت صاحبه بسببه قبل اندماله لا ما يندمل في الدنيا فإن أثر الجراحة وسيلان الدم يزول، ولا ينفي ذلك أن يكون له فضل في الجملة، لكن الظاهر أن الذي " يجيء يوم القيامة وجرحه يثعب دما " من فارق الدنيا وجرحه كذلك، ويؤيده ما وقع عند ابن حبان في حديث معاذ المذكور " عليه طابع الشهداء " وقوله " كأغزر ما كانت " لا ينافي قوله " كهيئتها " لأن المراد لا ينقص شيئا بطول العهد، قال العلماء: الحكمة في بعثه كذلك أن يكون معه شاهد بفضيلته ببذله نفسه في طاعة الله تعالى. واستدل بهذا الحديث على أن الشهيد يدفن بدمائه وثيابه ولا يزال عنه الدم بغسل ولا غيره، ليجيء يوم القيامة كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه نظر لأنه لا يلزم من غسل الدم في الدنيا أن لا يبعث كذلك، ويغني عن الاستدلال لترك غسل الشهيد في هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد " زملوهم بدمائهم " كما سيأتي بسطه في مكانه إن شاء الله تعالى. *3* الشرح: قوله: (باب قول الله عز وجل الحديث: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ سَأَلْتُكَ كَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ فَزَعَمْتَ أَنَّ الْحَرْبَ سِجَالٌ وَدُوَلٌ فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمْ الْعَاقِبَةُ الشرح: أورد المصنف طرفا من حديث أبي سفيان في قصة هرقل، وقد تقدم شرحه في كتاب بدء الوحي، والغرض منه قوله فيه " فزعمت أن الحرب بينكم سجال أو دول". وقال ابن المنير: التحقيق أنه ما ساق حديث هرقل إلا لقوله " وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة " قال: فبذلك يتحقق أن لهم إحدى الحسنيين، إن انتصروا فلهم العاجلة والعاقبة وإن انتصر عدوهم فللرسل العاقبة انتهى. وهذا لا يستلزم نفي التقدير الأول ولا يعارضه، بل الذي يظهر أن الأول أولى لأنه من نقل أبي سفيان عن حال النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الآخر فمن قول هرقل مستندا فيه إلى ما تلقفه من الكتب. (نكتة) : أفاد القزاز أن دال " دول " مثلثة. *3* الشرح: قوله: (باب قول الله عز وجل و قوله: وأخرج ذلك ابن أبي حاتم بإسناد حسن عن ابن عباس. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْخُزَاعِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ سَأَلْتُ أَنَسًا قَالَ ح و حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ حَدَّثَنَا زِيَادٌ قَالَ حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ لَئِنْ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ يَعْنِي أَصْحَابَهُ وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ الْجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ قَالَ سَعْدٌ فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ قَالَ أَنَسٌ فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلَّا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ قَالَ أَنَسٌ كُنَّا نُرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وَقَالَ إِنَّ أُخْتَهُ وَهِيَ تُسَمَّى الرُّبَيِّعَ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ امْرَأَةٍ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِصَاصِ فَقَالَ أَنَسٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا فَرَضُوا بِالْأَرْشِ وَتَرَكُوا الْقِصَاصَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ الشرح: قوله: (حدثنا محمد بن سعيد الخزاعي) هو بصري يلقب بمردويه ماله في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في غزوة خيبر، وعبد الأعلى هو ابن عبد الأعلى السامي بالمهملة. قوله: (سألت أنسا) كذا أورده وعطف عليه الطريق الأخرى فأشعر بأن السياق لها، وأفادت رواية عبد الأعلى تصريح حميد له بالسماع من أنس فأمن تدليسه. وقد أخرجه مسلم والترمذي والنسائي من رواية ثابت عن أنس. قوله: (حدثنا زياد) لم أره منسوبا في شيء من الروايات، وزعم الكلاباذي ومن تبعه أنه ابن عبد الله البكائي بفتح الموحدة وتشديد الكاف، وهو صاحب ابن إسحاق وراوي المغازي عنه، وليس له ذكر في البخاري سوى هذا الموضع. قوله: (غاب عمي أنس بن النضر) زاد ثابت عن أنس " الذي سميت به". قوله: (عن قتال بدر) زاد ثابت " فكبر عليه ذلك". قوله: (أول قتال) أي لأن بدرا أول غزوة خرج فيها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه مقاتلا، وقد تقدمها غيرها لكن ما خرج فيها صلى الله عليه وسلم بنفسه مقاتلا. قوله: (لئن الله أشهدني) أي أحضرني. قوله: (ليرين الله ما أصنع) بتشديد النون للتأكيد، واللام جواب القسم المقدر، ووقع في رواية ثابت عند مسلم " ليراني الله " بتخفيف النون بعدها تحتانية، وقوله "ما أصنع " أعربه النووي بدلا من ضمير المتكلم. وفي رواية محمد بن طلحة عن حميد الآتية في المغازي " ليرين الله ما أجد " وهو بضم الهمزة وكسر الجيم وتشديد الدال، أو بفتح الهمزة وضم الجيم مأخوذ من الجد ضد الهزل، وزاد ثابت " وهاب أن يقول غيرها " أي خشي أن يلتزم شيئا فيعجز عنه فأبهم، وعرف من السياق أن مراده أنه يبالغ في القتال وعدم الفرار. قوله: (وانكشف المسلمون) في رواية عبد الوهاب الثقفي عن حميد عند الإسماعيلي " وانهزم الناس " وسيأتي بيان ذلك في غزوة أحد. قوله: (أعتذر) أي من فرار المسلمين (وأبرأ) أي من فعل المشركين. قوله: (ثم تقدم) أي نحو المشركين (فاستقبله سعد بن معاذ) زاد ثابت عن أنس " منهزما " كذا في مسند الطيالسي، ووقع عند النسائي مكانها " مهيم " وهو تصحيف فيما أظن. قوله: (فقال: يا سعد بن معاذ، الجنة ورب النضر) كأنه يريد والده، ويحتمل أن يريد ابنه فإنه كان له ابن يسمى النضر وكان إذ ذاك صغيرا. ووقع في رواية عبد الوهاب " فوالله " وفي رواية عبد الله بن بكر عن حميد عند الحارث بن أبي أسامة عنه " والذي نفسي بيده، والظاهر أنه قال بعضها والبقية بالمعنى، وقوله "الجنة " بالنصب على تقدير عامل نصب أي أريد الجنة أو نحوه، ويجوز الرفع أي هي مطلوبي. قوله: (إني أجد ريحها) أي ريح الجنة (من دون أحد) . وفي رواية ثابت، (واها لريح الجنة أجدها دون أحد) قال ابن بطال وغيره: يحتمل أن يكون على الحقيقة وأنه وجد ريح الجنة حقيقة أو وجد ريحا طيبة ذكره طيبها بطيب ريح الجنة، ويجوز أن يكون أراد أنه استحضر الجنة التي أعدت للشهيد فتصور أنها في ذلك الموضع الذي يقاتل فيه فيكون المعنى إني لأعلم أن الجنة تكتسب في هذا الموضع فاشتاق لها. وقوله (واها) قاله إما تعجبا وإما تشوقا إليها، فكأنه لما ارتاح لها واشتاق إليها صارت له قوة من اشتنشقها حقيقة. قوله: (قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع أنس) قال ابن بطال يريد ما استطعت أن أصف ما صنع أنس من كثرة ما أغنى وأبلى في المشركين. قلت: وقع عند يزيد بن هارون عن حميد " فقلت أنا معك فلم استطع أن أصنع ما صنع. وظاهره أنه نفي استطاعة إقدامه الذي صدر منه حتى وقع له ما وقع من الصبر على تلك الأهوال بحيث وجد في جسده ما يزيد على الثمانين من طعنة وضربة ورمية، فاعترف سعد بأنه لم يستطع أن يقدم إقدامه ولا يصنع صنيعه، وهذا أولى مما تأوله ابن بطال. قوله: (فوجدنا به) في رواية عبد الله بن بكر " قال أنس فوجدناه بين القتلى وبه". قوله: (بضعا وثمانين) لم أر في شيء من الروايات بيان هذا البضع وقد تقدم أنه ما بين الثلاث والتسع، و قوله: (ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم) أو هنا للتقسيم، ويحتمل أن تكون بمعنى الواو، وتفصيل مقدار كل واحدة من المذكورات غير معين. قوله: (وقد مثل به) بضم الميم وكسر المثلثة وتخفيفها وقد تشدد وهو من المثلة بضم الميم وسكون المثلثة وهو قطع الأعضاء من أنف وأذن ونحوها. قوله: (فما عرفه أحد إلا أخته) في رواية ثابت " فقالت عمتي الربيع بنت النضر أخته: فما عرفت أخي إلا ببنانه " زاد النسائي من هذا الوجه " وكان حسن البنان " والبنان الإصبع، وقيل طرف الإصبع. ووقع في رواية محمد بن طلحة المذكورة بالشك " ببنانه أو بشامة " بالشين المعجمة والأولى أكثر. قوله: (قال أنس: كنا نرى أو نظن) شك من الراوي وهما بمعنى واحد. وفي رواية أحمد عن يزيد ابن هارون عن حميد " فكنا نقول " وكذا لعبد الله بن بكر؛ وفي رواية أحمد بن سنان عن يزيد " وكانوا يقولون " أخرجه ابن أبي حاتم عنه، وكأن التردد فيه من حميد، ووقع في رواية ثابت " وأنزلت هذه الآية " بالجزم. قوله: (وقال إن أخته) كذا وقع هنا عند الجميع ولم يعين القائل، وهو أنس بن مالك راوي الحديث، والضمير في قوله " أخته " للنضر بن أنس، ويحتمل أن يكون فاعل " قال " واحدا من الرواة دون أنس ولم أقف على تعيينه، ولا استخرج الإسماعيلي هذا الحديث هنا، وهي تسمى الربيع، بالتشديد أي أخت أنس ابن النضر وهي عمة أنس بن مالك، وسيأتي شرح قصتها في كتاب القصاص. وفي قصة أنس بن النضر من الفوائد جواز بذل النفس في الجهاد، وفضل الوفاء بالعهد ولو شق على النفس حتى يصل إلى إهلاكها، وأن طلب الشهادة في الجهاد لا يتناوله النهي عن الإلقاء إلى التهلكة. وفيه فضيلة ظاهرة لأنس بن النضر وما كان عليه من صحة الإيمان وكثرة التوقي والتورع وقوة اليقين. قال الزين بن المنير: من أبلغ الكلام وأفصحه قول أنس بن النضر في حق المسلمين " أعتذر إليك " وفي حق المشركين " أبرأ إليك " فأشار إلى أنه لم يرض الأمرين جميعا مع تغايرهما في المعنى، وسيأتي في غزوة أحد من المغازي بيان ما وقعت الإشارة إليه هنا من انهزام بعض المسلمين ورجوعهم وعفو الله عنهم، رضي الله عنهم وقوله أجمعين. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح و حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ أُرَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ نَسَخْتُ الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ فَفَقَدْتُ آيَةً مِنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا فَلَمْ أَجِدْهَا إِلَّا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ الَّذِي جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهَادَتَهُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ الشرح: قوله: (وحدثنا إسماعيل) هو ابن أبي أويس، وأخوه هو أبو بكر عبد الحميد، وسليمان هو ابن بلال أراه عن محمد بن أبي عتيق هو بضم الهمزة أي أظنه، وهو قول إسماعيل المذكور. قوله: (عن خارجة بن زيد) أي ابن ثابت، وللزهري في هذا الحديث شيخ آخر وهو عبيد بن السباق، لكن اختلف خارجة وعبيد في تعيين الآية التي ذكر زيد أنه وجدها مع خزيمة فقال خارجة: إنها قوله تعالى وفي رواية عبيد بن السباق زيادات ليست في رواية خارجة، وانفرد خارجة بوصف خزيمة بأنه " الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين " وسأذكر ما في هذه الزيادة من بحث في تفسير سورة الأحزاب إن شاء الله تعالى. والسياق الذي ساقه هنا لابن أبي عتيق، وأما سياق شعيب فسيأتي بيانه في تفسير الأحزاب وقال فيه عن الزهري " أخبرني خارجة " وتأتي بقية مباحثه في فضائل القرآن إن شاء الله تعالى. *3* وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إِنَّمَا تُقَاتِلُونَ بِأَعْمَالِكُمْ وَقَوْلُهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ الشرح: قوله: (باب عمل صالح قبل القتال. وقال أبو الدرداء إنما تقاتلون بأعمالكم) هكذا وقع عند الجميع ولعله كان قاله أبو الدرداء وقال " إنما تقاتلون بأعمالكم " وإنما قلت ذلك لأنني وجدت ذلك في " المجالسة للدينوري " من طريق أبي إسحاق الفزاري " عن سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد أن أبا الدرداء قال: أيها الناس عمل صالح قبل الغزو، فإنما تقاتلون بأعمالكم". ثم ظهر لي سبب تفصيل البخاري، وذلك أن هذه الطريق منقطعة بين ربيعة وأبي الدرداء، وقد روى ابن المبارك في كتاب الجهاد عن سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد عن ابن حلبس بفتح المهملة والموحدة بينهما لام ساكنة وآخره سين مهملة " عن أبي الدرداء قال: (إنما تقاتلون بأعمالكم) ولم يذكر ما قبله فاقتصر البخاري على ما ورد بالإسناد المتصل فعزاه إلى أبي الدرداء، ولذلك جزم به عنه، واستعمل بقية ما ورد عنه بالإسناد المنقطع في الترجمة إشارة إلى أنه لم يغفله. قوله: (وقوله تعالى وهذا الثاني أظهر فيما أرى والله أعلم. وقال الكرماني: المقصود من الآية في هذه الترجمة قوله في آخرها وسيأتي تفسير قوله: (مرصوص) في التفسير. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ الْفَزَارِيُّ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مُقَنَّعٌ بِالْحَدِيدِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُ أَوْ أُسْلِمُ قَالَ أَسْلِمْ ثُمَّ قَاتِلْ فَأَسْلَمَ ثُمَّ قَاتَلَ فَقُتِلَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمِلَ قَلِيلًا وَأُجِرَ كَثِيرًا الشرح: قوله: (حدثني محمد بن عبد الرحيم) هو الحافظ المعروف بصاعقة، وإسرائيل هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي. قوله: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل) لم أقف على اسمه ووقع عند مسلم من طريق زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق أنه من الأنصار ثم من بني النبيت بفتح النون وكسر الموحدة بعدها تحتانية ساكنة ثم مثناة فوق ولولا ذلك لأمكن تفسيره بعمرو بن ثابت بن وقش بفتح الواو والقاف بعدها معجمة وهو المعروف بأصرم بن عبد الأشهل، فإن بني عبد الأشهل بطن من الأنصار من الأوس وهم غير بني النبيت، وقد أخرج ابن إسحاق في المغازي قصة عمرو بن ثابت بإسناد صحيح عن أبي هريرة أنه كان يقول " أخبروني عن رجل دخل الجنة لم يصل صلاة؟ ثم يقول: هو عمرو بن ثابت " قال ابن إسحاق قال الحصين بن محمد: قلت لمحمود ابن لبيد: كيف كانت قصته؟ قال: كان يأبى الإسلام، فلما كان يوم أحد بدا له فأخذ سيفه حتى أتى القوم فدخل في عرض الناس فقاتل حتى وقع جريحا، فوجده قومه في المعركة فقالوا: ما جاء بك؟ أشفقة على قومك، أم رغبة في الإسلام؟ قال: بل رغبة في الإسلام، قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصابني ما أصابني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه من أهل الجنة " وروى أبو داود والحاكم من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة " كان عمرو يأبى الإسلام لأجل ربا كان له في الجاهلية، فلما كان يوم أحد قال: أين قومي؟ قالوا بأحد، فأخذ سيفه ولحقهم، فلما رأوه قالوا: إليك عنا، قال: إني قد أسلمت، فقاتل حتى جرح، فجاءه سعد بن معاذ فقال: خرجت غضبا لله ولرسوله، ثم مات فدخل الجنة وما صلى صلاة. فيجمع بين الروايتين بأن الذين رأوه وقالوا له: إليك عنا، ناس غير قومه، وأما قومه فما شعروا بمجيئه حتى وجدوه في المعركة. ويجمع بينهما وبين حديث الباب بأنه جاء أولا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستشاره ثم أسلم ثم قاتل، فرآه أولئك الذين قالوا له إليك عنا. ويؤيد هذا الجمع قوله لهم " قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم " وكأن قومه وجدوه بعد ذلك فقالوا له ما قالوا. ويؤيد الجمع أيضا ما وقع في سياق حديث البراء عند النسائي، فإنه أخرجه من رواية زهير بن معاوية عن أبي إسحاق نحو رواية إسرائيل وفيه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم " لو أني حملت على القوم فقاتلت حتى أقتل أكان خيرا لي ولم أصل صلاة؟ قال نعم " ونحوه لسعيد بن منصور من وجه آخر عن أبي إسحاق وزاد في أوله أنه قال " أخير لي أن أسلم؟ قال نعم: فأسلم " فإنه موافق لقول أبي هريرة " إنه دخل الجنة وما صلى لله صلاة " وأما كونه من بني عبد الأشهل ونسب في رواية مسلم إلى بني النبيت فيمكن أن يحمل على أن له في بني النبيت نسبة ما، فإنهم إخوة بني عبد الأشهل يجمعهم الانتساب إلى الأوس. قوله: (مقنع) بفتح القاف والنون مشددة، وهو كناية عن تغطية وجهه بآلة الحرب. قوله: (وأجر كثيرا) بالضم على البناء أي أجر أجرا كثيرا، وفي هذا الحديث أن الأجر الكثير قد يحصل بالعمل اليسير فضلا من الله وإحسانا.
|